الحلقة الثالثة: الطاغية تُبع يطوف بالكعبة
الحلقة الثالثة: الطاغية تُبع يطوف بالكعبة !! رأينا كيف أهلك الله الشطر الأعظم من عرب اليمن، ممثلاً فى كبرى القبائل ـ الأزد ـ، والتى تمزقت إربًا .. قطعًا متناثرة على طول جزيرة العرب حتى الشام والعراق شمالاً .. ولكن هل نجا الباقون،ؤالذين أعيتهم الحيلة فى الخروج من هذا الهلاك، حين أتى السيلُ على كل شيء فى اليمن ؟ لم ينج من عقاب الله أحدٌ ، فقد لقى من تعذر عليه الخروج عذابًا أشد وطأة ممن خرجوا، سلَّط الله عليهم السيل فجرف حياتهم، وحوَّلهم من الثراء والنعيم، إلى الفقر والعوز، بل والمجاعات أحياناً، فلم تنعم قبائل ـ كِندة ، والأشاعرة ، وأنمار ـ بأمن ولا راحة، فأضحوا نهارهم، وأمسوا ليلهم فى حروب وقتل وتدمير وإحراق.. صراع لا نهاية له من أجل البقاء، وأنَّى لهم ذلك ؟ ظلوا هكذا حتى بغت عليهم كبراهم ـ قبيلة حمير ـ ( أحفاد حمير القديمة ) فأخضعت كل الضعفاء الذين أنهكتهم الحروب الداخلية لسلطانها، ونزعت سلاح الجميع، ومن أراد أن ينعم بعيش ويجد له حظاً فى البلاد، فليحمل سيف ـ حمير ـ وينضوى تحت لوائها. استبدت حمير بالأمر دون منازع، وصارت لها السيادة على كل ربوع اليمن، ولكن أي يمن ؟ بعد أن فعل السيل على طول البلاد وعرضها ما فعل .. (يمنٌ) ممزق تأكله الثارات الداخلية، ويقف على أوديته المارقون على حكم (حمير ) يسلبون أمن الناس، ويقطعون طُرق مرورهم، وينتهبون أطراف البلاد، ويشعلون الحرائق هنا وهناك، وداخل المدن يخيم شبح الفقر على الجميع، ولا يترك الجوع دارًا دون أن يحط فيها، ويتشرق المرض أسوار البلاد . لقد كانوا فى نعمة من العيش ورغد، ولكنها البشرية التعسة التى أصرت الجحود والنكران، فكان لهم ما كان، ضاعت الزروع والثمار، والأشجار الكثيفة، وكذا جنة اليمين وشقيقتها جنة اليسار، وصارت أقاصيص تُحَكى فى مجالس القوم وأنديتهم ،حين يحز بهم الأمر، ولا يجدون معيناً سوى الخروج من الواقع الأليم بذكر أمجاد الماضى، الذى ولى من دون رجعة . ويسوق القدر لهؤلاء، حاكمًا غليظ القلب، قوى الشكيمة، عظيم البأس، ذو بصيرة نافذة ، سليل ملوك حمير الأقدمين ( تبان أسعد أبى كرب ) وكان ملكاً متسلطاً، استطاع بعد طول مثابرة وجد إقامة دولة قوية فى هذه الظروف العصبية، انبثق منها أضخم جيش عرفته الدنيا فى زمانه، ورأى ( تبان أسعد أبى كرب ) أن البلاد ضاعت مواردها، فعوَّل على جيشه فى جلب المال لبلاده، والخيرات من أقاصى الأرض وأدناها، بعد أن حوَّل مهمة جيشه للقرضنة، وصارت تلك هى وظيفة الجيش .. الإغارة على بقع الثراء والنماء، والزروع فى الأرض، ينتهبها، ويروّع أهلها، ويستلب ما يمتلكون ويحرمهم الأمن .. يخرج ( تبان أسعد ) الذى سماه القرآن [ تُبع ] يخرج فى جيشه الكبير، لأشهر طوال قد تقارب العام، يغير على البلاد والعباد، ليعودَ لقومه فى اليمن محمّلاً بكنوز الأرض والأموال المنهوبة، فأخرج بلاده من مأزق كادت الانحدار فيه صوب المجاعة .. لولا أن حوَّل الملك ( تبان أسعد ) جيشه للقرصنة المنظمة،لانمحت بلاده،ولم يعد لها ذكرٌ .. غزا البلاد بغياً وعدواناً، واستولى على خيرات الممالك، حتى صار مصير من تطاله يده الضياع والهلاك . وبعد طول مكوث داخل أرضه باليمن، أحس ـ تبان ـ أن ما سلبه فى رحلاته السابقة قد بدا للنفاذ، فقرر الخروج للغزو . ويخرج الجيش الجرار بفرقه المدربة، بكتائبه المنظمة، بقواده الأفذاذ، يقودهم الملك (تُبع) وبرفقته طاقماً من المعاونين على أفضل ما يكون التدبير .. قوة هائلة على غير العادة، تغادر اليمن .. ولا يترك الملك (تبع) خلفه من يحمى البلاد ، لم يفعلها من قبل ، أن يخرج بجيشه كامل ، وحين يسأله أحد معاونيه : ألا تركت أيها الملك بعض الجيش خلفنا، فنأمن فى سفرنا على من تركناهم من قومنا . فيرد عليه تبع فى خيلاء : ومن يجرؤ أن يقترب من عرين الأسد ؟ اعلم يا هذا أنه لو سولت لأحدهم الإغارة على بلادى، فلن أُبقى فى بلاد العرب نفراً إلا ويسير خلفى، وتحت طوعى ، دع عنك هذا الخبال الذى فى رأسك، أما ترى أن القرى تفر مذعورة حين مقدمى عليها ؟! إنها والله نهاية العرب والعجم إذا ما حدث ذلك . ويتعجب الناس خلفه، ويدور حديث هامس بين معاونيه : لِمَ كل هذه الجلبة فى تلك المرة ؟ دائما نخرج بعدة من الرجال قدر حاجتنا فى مهمتنا، لِمَ يخرج جيش اليمن كله هذه المرة ؟ ويرى آخرون : أنه سبب لا يعرفه سوى الملك تبع . لكن الحقيقة كامنة فى سر الإرادة الإلهية، التى تدبر أمراً لا يعلمه تبع اليمانى المنساق نحو قدره وهو لا يدرى !! كان من عادته إذا تحرك صوب هدفه، أرسل العيون يستطلع ماهية الفريسة، ومن ثم يعد لها العد المناسب على قدرها، فإن كانت قرية صغيرة، أرسل لها الفصائل والمجاميع، وإن كانت مدينة فتية أطلق عليها الفرق المتوثبة لإخضاعها، وإن كانت جماعات سطو من أولئك المتربصين بأطراف الجيش حين المسير، دفع إليهم بكتائب الحركة السريعة لمطاردتهم، لكن تلك الخرجة غريبة، غامضة . ويهيم الجيش ناحية الشمال، بعد أن أمر ( الملك تبع ) حاملى الأبواق بنفخ نفير الحركة، ليبدأ الجيش الكثيف بالسير إلى الأمام، يدك الأرض من تحته دكاً، السرايا، والكتائب، والفرق، ترفع الرايات وشارات التمييز، وفى مؤخرة الركب، مقصورة القيادة، تحملها الإبل الشداد، ويقبع بداخلها الملك تبع ونفر من حاشيته، وأثناء التحرك يسأله أحد خاصته: إلى أين أيها الملك، أرانا نتحرك شمالاً ؟ قال الملك تبع : إلى أرض لم تطأها قدمى من قبل، فكلكم يعلم أننى لم أترك من الأرض التى حولنا مكاناً لم أُعمل فيه السيف، ولم أدعه ينعم بأموال وكنوز – الآن يا أحمر – ( وأحمر هذا أكبر معاونيه) أردت أن أسد فراغ ما تركت من بقاع فى غزواتى السابقة إلى الشمال، لعلنا ندرك ما لم ندركه قبل ذلك . ويقطع الجيش طريقه، حتى إذا كان قريباً من مكة – بين عسفان وأمج– مرق بعينيه فى الظلام قبيلة تضيئ النيران، فأوفد من يستقصى أمرهم، وجاءه الخبر بما أسال لعابه !! قال معاونه أحمر : إنها أيها الملك قبيلة ( هذيل ) وهى تقيم قرب بيت العرب ( مكة ) وتختزن فى دورها من الكنوز وهدايا الحجيج ما جعلها أغنى قبائل الوادى الفسيح على قلة عدد
الكاتب محمد مصطفي